المال : دورُه كعُملَة اللذّة المسيحيّة

المال هو عُملة اللذَّة المسيحيّة (بمفهومِها المسيحيّ الذي شرحناه سابقاً)، إذ تتحدَّد أو تتبدَّد سعادتك في ضوء ما تفعله أو ما ترغب أن تفعله بالمال. وواضح تماماً مِن 1 تيموثاوس 6 : 6 – 19 أنّ المال إمّا أنْ يُدمِّر أو يُؤمِّن لك الحياة الأبديّة.

يبدو لي أنّ هذا النّص الكتابيّ، يُعلِّمنا كيفيّة استخدام المال بطريقة تجلُبُ لنا رِبحاً أعظم وأبقى. وهو يؤيِّد ما أُحاول أن أُنادي به وهو السَّعي للسُّرور الشّخصيّ مِن منظورٍ مسيحيّ، وهذا ليس مسموحٌ به وحسب، بل هو وصيةٌ مِن الرّب ذاتِه لتشجيعنا على طَلَبِ السُّرور والاستِمتاع الكامِل والدّائِم. إنّ كُلّ الشّرور لَم تأتِ إلى العالَم بسبب قوّة رغبتنا في السّعادة، بَل لأنّ رغبتنا ضعيفة للدّرجة التي تجعلنا نكتفي بِمُتَعٍ زائِلة ووقتيّة لا تُشبِعُ أعماقَ نُفوسِنا، بَل تؤول في نهاية الأمر إلى تدميرها. إنّ أصلَ كُلّ الشّرور أنّنا نكتفي بِمَحبّة المال عِوَضاً عن مَحبّة الله.

تَسويق التّقوى:

يكتُب بولس إلى تيموثاوس كَلِمة تحذير مِن بعض المُخادِعين الذين ظنّوا أنّه يُمكِنُهم الاتِّجار بالكِرازة في أَفَسُس. بِناءً على 1 تيموثاوس 6: 5 هؤلاء مُثيرو جَدَلٍ وتَعامَلوا مع التّقوى على أنّها تِجارة ووسيلةُ رِبح. هُم مُدمِنون مَحبّة المال لدرجَةِ أنّ الحقّ ليس له مكانٌ في وِجدانهم. إنَّهم لا يفرحون بالحقّ، لكنَّهم يفرحون بالتّهرُّبِ مِن الضّرائب. إنّهم على استعداد أن يَستغِلُّوا أيّ طريقة جديدة لرِبح بِضعَة دولارات، فهُم لا يَهابون المُقدَّسات. المهم بالنِّسبة لهُم هو رقم الأرباح في قوائم حِساباتهم نهاية العام، فنَوع الاستراتيجيّات التي يتبعونها في إعلاناتهم لا تَهُمُّ كثيراً طالَما العائِد كبير. هكذا إذاً، إنْ كانت تجارة التَّقوى ستعود عليهم بالرِّبح فهُم يُرحِّبون بها. إذا كان الْجِنس يُسبِّب رَواجاً، فهُم يستخدمونه في سبيل الحصول على الرِّبح. إذا كانت موجة التّقوى تأتي وتذهب، فلا بُدَّ مِن انتهازها والمُتاجَرة بها لِجَني الأرباح قبل ضياع الفُرصة!.

في هذه الأيّام تِجارة التّقوى رائِجة ورابِحة. فسُوق التّقوى رائِجٌ جدّاً وعامِرٌ بالكُتُبِ الأكثر مَبيعاً وبِمُؤلِّفيّ الموسيقى وتُجَّار الصّلبان المصنوعة مِن الفِضّة، والحُلي التي يتزيَّن بها المسيحيّون على شكل سَمَكة، وفتَّاحات مُغلَّفات الرّسائل المصنوعة مِن خشب شجرة الزَّيتون المُبارَكة، واللاصِقات الدّينية، وصلبان المياه المُبارَكة التي تجلُب الحظّ الطيِّب وتجعلك تربح المال الوَفير- ويُعطُوكَ ضمان استعادة نقودك في خلال 90 يوما بعد البيع. حقّاً، إنّ مَوسم رِبح التّقوى هو في هذه الأيّام. إنّي أتخيّل بولس الرّسول يَردُّ على ما يحدث مِن تحوُّلِ التّقوى إلى تِجارة بقوله: "تيموثاوس، لا تتبعهم، لأنّ المؤمنين لا يَحيَونَ مِن أَجْلِ رِبح، بَل هُم يفعلون الصّواب مِن أَجْل فِعل الصّواب وحَسْب، والرِّبح لَيس بمُتسلِّطِ عليهم". غيرَ أنّ بولس لَم يَقُلْ لَه (لتيموثاوس) هذا في عدد 6، بَل قال: "أمّا التّقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة". أي رِبح عظيم. عِوَضاً عن أن يقول إنّ المسيحيّين لا يَحيَوا مِن أَجْلِ رِبحٍ ما، قال: إنّ على المسيحيّين أن يَحيَوا مِن أَجْلِ رِبحٍ، ولكنْ رِبحاً أعظم مِمّا يَحيَون مِن أَجلِه مُحبّي المال. التّقوى هي الطّريقة التي نحصَلُ بها على هذا الرِّبح العظيم، ولكنْ هذا يتحقّق لَو كُنّا قانِعين بالحياة البسيطة، وليس طمّاعِين مِن أجل الغِنى. "أمّا التّقوى مع القَناعة فهِيَ تجارة عظيمة". وإذا كانت تَقواكَ حرَّرتكَ مِن رغبة الغِنى، فإنّها قد ساعدتك لتكونَ قانِعاً بِما لديك بالفِعل، وعندئذ تكون تقواك نافِعة ومُربِحة جدّاً لكَ (1تيموثاوس 4: 8). إنّ التّقوى التي تتغلَّب على التّلَهُّف للثَّرَوات الماديّة العالمَيّة تُنتِجُ ثَرَواتاً روحيّةً هائِلَةً. ولهذا فإنّ العدد 6 مِن الأصحاح السّادس يَذكُر أنّ مِن المُربِح جدّاً أنْ لا نطلُبَ هذه الثَّرَوات الماديّة.

عالَم التِّجارة والأعمال، والرَّغبة في الغِنى:

ما يأتي تِباعاً مِن الأعداد (7- 10)، يُقدِّم ثلاثة أسباب تُبرِّر عدم وجوب السّعي للغِنى. لكنْ دَعوني أوّلاً أُوضِّح شيئاً هُنا، نحن نَحيا في مُجتمَعٍ فيه العَديد مِن الشَّركات والأعمال المُعتَمِدة على كثافة رؤوس الأموال، فلَن يُمكنَك أنْ تبني مَصنعاً مثلاً دون ملايينِ الدّولارات. لِذا، المسؤولون الماليّون في الشّركات الضّخمة عادةً ما يُطالِبون بتوفير رؤوسِ أموالٍ، مِن خلال بَيع أَسهُمِ الشَّركة مثلاً. وعندما يَدين الكتاب المقدّس الرّغبة في الغِنى، فهُوَ لَيس بالضّرورة يَدين الأعمال التي تَهدُف إلى توسيعِ رُقعَتِها، ومِن ثُمّ تسعى لزِيادة رؤوسِ أموالها . يُمكن لهؤلاء المسؤولين أنْ يَطمَعوا في ما هو أبعدُ مِن الثّراء الشّخصيّ، أو رُبّما لديهم حافِزٌ أكبر وأَنبَل مِن حيث الفائدة التي قد تَعُمُّ على النّاس مِن جَرّاءِ زيادة حجم أعمالهم.

وحتّى عندما يُعرَضُ على أحدهم وظيفة ذات راتِب أعلى ويقبلُها، هذا لا يكفي لإدانته بمَحبّة الغِنى. لعلَّه يكون قَبِلَها إمّا لأنّه يَتوقُ إلى النُّفوذِ وحالة التَّرَف التي يُقدِّمها المَزيد مِن الأموال، أو رُبّما هو مُكتَفٍ جدّاً بِما لَديه ويُريد أن يَستخدِم المال الفائِض في بِناء دارِ أيتامٍ، أو تقديمِ مِنَحٍ أو مُساعَدَة مُرسَلين أو تَمويل خِدمة ما. إنّ العمل لكَسب المال لاستخدامه في ما للمسيح يختلف عن الرّغبة في الغِنى. ولذلك ما يُحذِّر منه بولس هُنا لَيس كَسْبَ المال لسَدادِ احتياجاتنا أو احتياجات الآخَرين، ولكنْ التّحذير مِن الرّغبة في امتِلاك المَزيد والمَزيد مِن الأموال فقط للتّباهي والزُّهُوّ الشّخصيّ والاستِعراض بالتَّرَف الماديّ الذي تَجلِبُه هذه الأموال.

لا توجد مقطورة خلف سيّارات المَوتى:

الآن، دعونا نرى الأسباب الثلاثة التي قدَّمَها بولس في الأعداد مِن 7-10 التي مِن أَجْلِها لا يجب أنْ نسعى للغِنى. أوّلاً، في عدد 7 "لأنَّنا لَمْ نَدْخُلِ العَالَمَ بِشَيءٍ وَوَاضِحٌ أنَّنَا لا نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ". أو كَما قال "فلوسي أو كونر" (Flossie O'Connor) لا توجد مَقطورَة مُلحَقات خلف سيّارة الأموات.

اِفْرِضْ أنّ أحدَهم مَرَّ مِن بابِ دخولِ أحَدِ مَتاحِف المدينة وهو فارِغ اليدَين، إلاّ أنّه بدأ يجمع اللّوحات الفنيّة ويُنزِلُها مِن على الحائط ويضعُها بِحِرصٍ تحت ذراعه. لِذا تذهب إليه وتقول له: "ماذا تفعل؟"، فيُجيبك: "أنا جامِعُ لَوحاتٍ فنيّةٍ"، فترُدُّ عليه: "لكنَّهم لَيسوا مُلكَك، ثُمّ لَن يسمحوا لكَ بالخُروج بِهم. ستُضطَّرُ إلى الخروج بِدونِهم، تماماً كَما دخَلْت". إلاّ أنّه يقول لك: "بالتّأكيد هُم لي، وأنا أُمسكُهم جيّداً الآن، ولَن أُفلِتَهُم ولَن أُفَرِّطَ فِيهِم، والنّاس ينظرون لي الآن على أنّي تاجِر مُهِمّ أتنقَّل بين هذه الصّالات والمَتاحِف، ولا أُعيرُ لأَمْرِ مُغادرَتي اهتماماً. مِن فضلك لا تُفْسِد فرحَتي". سوف تقول عن هذا الرَّجُل إنّه مجنون، ويعيش في عالَمٍ بعيدٍ عن الواقع. غيرَ أنّ هذا هو تماماً حالُ كُلّ مَن يَقضي حياتَه في السّعي مِن أجل الغِنى. سنخرُج مِن هذا العالَم كَما دَخَلْنا.

تصوَّر أنّ 269 شخصاً فُقِدوا إِثْرَ حادِثِ تَحطُّم طائرة، وهُم يدخلون الآن إلى الأبديّة. قَبْل الحادِث، كان على مَتْنِها سياسيٌّ لامِعٌ، ومِليونيرٌ صاحِبُ إحدى الشَّركات الكُبرى. وشخصٌ آخَرٌ لَعوبٌ وصديقته، وابنُ أحدِ المُرسَلين في طريقِ عودته مِن زيارة الْجَدّ والْجَدّة. وبعد تَحطُّم الطّائرة وَجدوا أنْفُسهم واقفين أمام الله بدونِ أيِّ بطاقاتِ ائتمانٍ (MasterCard)، ولا كُتُبٍ إرشاديّةٍ ولا مَلابِس فاخِرة، ولا حتّى شهادات النَّجاح و حُجوزات فندق هيلتون. جميعُهم في مستوى واحد وبدون أيِّ شيءٍ يُميِّزُهم، لا شيء على الإطلاق في أيديهم، فقط يحملون ما تحمله قلوبهم. ما مدى مأساويّة وسُخف محبّة المال في هذا الموقف!. يُشبِه إنساناً أضاعَ حياتَه كُلّها في جَمْع تذاكِر قِطار، ومِن كَثرة التّذاكِر التي جَمَعها، زادَ ثِقلُه إلى الدّرجة التي منعَته أن يُسرِع ويلحق بالقِطار. لا تحاول أن تكون غنيّاً: "لأنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ العالَمَ بِشَيءٍ وَواضِحٌ أنَّنا لا نَقْدِرُ أنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيءٍ".

البَساطَةُ شيءٌ مُمكِنٌ وجيِّدٌ:

ثانياً، عدد 8: "فَإنْ كانَ لَنا قُوْتٌ وكُسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا". يستطيع المؤمنون، بَل يجب عليهم، أن يَقنَعوا بالاكتِفاء بضَرورات الحياة. سأذكُر ثلاثة أسبابٍ تُبرِّر ضرورة البَساطة وكيف أنّها مُمكِنة ومَفضَّلة. لأنّه عندما يكون الله بِقُربِك، ويعمَل لأجلك، لَن تحتاج إلى أموالٍ فائِضة لتَمنَحك سلاماً أو أماناً. في الرِّسالة إلى العِبرانيّين 13: 5، 6 يقول:

لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ المَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ لأَنَّهُ قَالَ لا أُهْمِلُكَ و لا أَتْرُكُكَ. حَتّى إنَّنَا نَقُولُ واثِقِينَ الرَّبُّ مُعِينٌ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذا يَصنَعُ بِي إِنْسَانٌ".

لا يَهُمُّ كيف يَسيرُ السُّوقُ، الله دائماً أفضَلُ مِن الذَّهَب. ولذلك، بمعونة الرّبّ يُمكِننا أنْ نَصيرَ قانِعين بضرورات الحياة.

يُمكِننا التّحلِّي بالقَناعة بِما لَدَينا مِن ضَروراتِ الحياة، لأنّ أعمَقَ وأَشبَع مصادِر فَرَحٍ وسرورٍ قد مَنَحَها الله لَنا مجّاناً. كَما أنّه بعد تسديد احتياجاتك الأساسيّة، يبدأ المال في تقليل قدرتك على الاستِمتاع بهذه المُتَع، عِوَضاً عن زِيادتها. وشِراءُ الأشياء لا يُساعِد على الإطلاق في قُدرَةِ القلب على الفَرَح والسُّرور. هناك فَرْقٌ عميقٌ بين إثارةٍ وقتيّةٍ للحُصول على لُعبة جديدة، وبَين حِضنٍ دافئٍ بسبب عَودة صديقٍ عزيزٍ بعد غِيابٍ طويل. مَن في رأيك يكون له فَرَحُ وسُرورٌ أعمق وأكثر شِبَعاً في الحياة: إنسانٌ يدفع مائة دولار ليجلس في الدَّور الأربعين لِمَطعَمٍ بِوَسَط المدينة، يَقضي أُمسِيَته في ضوءٍ خافِتٍ ويُبهِر بتَدخينه نساءً غريباتٍ يُقدِّمْنَ مشروباتٍ لا يتعدَّى ثمَنها العشرة دولارات. أَمْ إنساناً آخَر اختارَ فُندقاً متواضعاً مثل "موتيل 6" في الغرب مليئاً بزهور عَبَّاد الشَّمس، ليَقضي أُمسِيَته يتأمَّل غُروب الشَّمس ويكتُب خِطاباً غَراميّاً لزوجته الوَفيّة؟.

يجب علينا أنْ نكون قانِعين بضرورات الحياة لأنّنا يُمكِن أنْ نستَثمِر الفائض الذي لَدَينا في فِعل أشياء لها قِيمَتها بالفِعل. ثلاثة بَلايين إنسان الآن لا يَعرِفون يسوع المسيح. ثُلُثَي هذا العدد لا يتواجد لديهم خادِم مَسيحي أمين يَشهَدُ لهُم حسب ثقافتهم. لَو كان عليهم أنْ يسمعوا، والمسيح يوصِي بالسَّمَع، فلا بُدَّ مِن مُرسَلين لهؤلاء النّاس، ويتمّ تَمويلهم. هناك حاجة لكُلّ الثَرَوات التي للكنيسة الأمريكيّة لإرسال جَيش مِن السُّفَراء للأخبار السّارّة. لَو نحن قانِعون، مِثل بولس بضرورات الحياة، لِجُمِعَت آلاف الدولارات مِن كنائسنا المحليّة وملايين مِن الكنائس المعمدانيّة، ومئات الملايين مِن الكنائس البروتستانتيّة بصفة عامّة وشامِلة، ثُمّ استُغِلَّت هذه الأموال لحَمْلِ البِشارة إلى أقصى تُخومِ الأرض، وثورة الفَرَح والسُّرور ستكون شاهداً على ذلك. إنّ النِّداء الكتابيّ يقول: إنّه مِن المُمكِن، بَل وينبغي، أنْ نَقنَع بضرورات الحياة. وبناءً عَلَيه لا تُحاوِل أنْ تُصبِح ثَرِيّاً.

السَّعي نحوَ الغِنى يقود إلى الهَلاك:

السَّبب الثّالث الذي يُبرِرُّ عَدَمَ السَّعي للثَّرَاء: هُوَ أنّ هذا يقود في نهاية الأمر إلى الهَلاك. عدد 9، 10:

وَأَمَّا الّذِينَ يُريدُونَ أنْ يَكُونُوا أَغنِياءَ فَيَسْقُطونَ في تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَواتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاكِ. لأنَ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرورِ الَّذي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإيمَانِ وَطَعَنُوا أَنفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ".

لا أحَدٌ مِن المسيحيّين المؤمنين السّاعِين للفَرَح والسّرور يُريد أنْ يَغرَق في الْعَطَب والهَلاك، أو يَطعَن نَفْسَه بأوجاعٍ كثيرةٍ، ومِن ثُمّ لا أحد مِنهم يَرغب في الغِنى. اختَبِر نَفْسَكَ، هل تعلَّمتَ أنْ تتعامَل مع المال مِن مَنظور الكتاب المقدَّس، أَمْ مِن عُصارَةِ مبادئ التِّجارة العالميّة المُعاصِرة؟. عندما تركَبُ طائرة، فإنّك تقرأ مجلّة الخطوط الْجويّة، وتقريباً كُلّ صفحة تُعلِّم وتدفع نحو فِكرة الثّروَة وحُبّ التّملُّك، وهو ما يُناقِض تماماً ما جاء في عدد 9 مِن هذا الإصحاح، وهو ما أوضَحَ جَلِيّاً خُطورَة الرَّغبة في الغِنى، والتّحلِّي بِصُوَر التّملُّك والثَّرَوات .

على سبيل المثال، في سبتمبر 1983 وعلى الخطوط المُتَّحِدة كان يوجَد صورة كاملة لإعلانٍ عن كراسي مكتبيَّة ماركة "لا ذي بوي LA-Z-BOY"، فيها إنسان يجلس في مكتب فاخِر جدّاً وهذه الكلمات تعلوه: "بَذلته مُصمَّمة بطَلَبٍ خاص وساعته مِن ذهبٍ صافٍ، وكراسي مكتبه الأنيق ماركة "لا ذي بوي LA-Z-BOY" ثم يستطرد الإعلان:

لقد عَمِلتُ جاهداً وحصلتُ على نصيبي مِن الحظّ الطيِّب، لقد نجح عملي وأردتُ لمكتبي أنْ يعكس هذا النّجاح، وأعتقد أنّي حقَّقتُ هذا بالفعل، حيث أنّي اخترتُ لكُرسي مكتبي أنْ يكون ماركة "لا ذي بوي LA-Z-Boy" الفاخِر للمُديرين. وهو حقّاً يتماشى مع الصّورة التي أردتُها لنَفْسي...إذا كنتَ لا تستطيع أن تقول مثل هذا الكلام عن كرسي مكتبك، أَمَا آنَ الأوان بعد لتجلس على كرسي ماركة "لا ذي بوي LA-Z-BOY"؟ ألَم يَحِنْ الوقت لتُنهي هذه الفترة الطويلة التي لم تستخدم فيها ولو كرسيّاً واحداً مِن هذه الماركة ؟.

مَن لَه أذن للسّمع فليَسمع، ففي هذه السُّطور تبرز فلسفة الثّروة التي تقول: "إذا كَسِبتُها (أي الثّروة)، الأحمق فقط هو الذي يُنكِر على نفسه صُوَر هذه الثّروة". وبِما أنّ ما يأتي في العدد 9 صحيحاً، وبِما أنّ الرّغبة في الغِنى ستوقِعنا في فِخاخ إبليس والعَطَب والهلاك، إذن هذه الإعلانات المُروِّجة لهذه الرّغبة هي شيطانيّة وهَدّامة لمبادئ الكتاب المقدّس، وتُعادِل شرَّ الاطِّلاع على الإعلانات الْجنسيّة. هل أنتَ يَقِظٌ مِن الإغراءات الاقتصاديّة؟ أَمْ أنّ النّواحي الاقتصاديّة تملَّكَتك لدرجة أنّ الخطيّة الوحيدة التي تتخيَّلها، مُتعلِّقة بالمال وتَصِلُ بك حتّى إلى السَّرِقة؟. إنّي أُؤمِن بحُريّة الحديث وحُريّة المشروعات، إلاّ أنّي لا أُؤمِن في أيِّ قُدرة أخلاقيّة لتحسين حكومة مدنيّة أثيمة قائمة على مؤسَّسات بناها مواطِنين أشرار. ولهذا، مِن أجل الرّبّ، دعونا نستخدم حُريَّتنا كمسيحيّين مؤمنين لنقول "لا" للرَّغبة في الغِنى والثَّروات الطّائلة و"نعم" للحقّ:

في التّقوى رِبحٌ عظيمٌ إذا كُنّا قانِعين بضرورات الحياة البسيطة.

لأولئك الّذين هُم بالفِعل أغنياء:

الآيات الواردة في 1 تيموثاوس 6: 6-10، تتعلّق بالّذين لَيسوا بأغنياء ولكنّهم تحت إغراء الرَّغبة في الغِنى. أمّا في الأعداد 17-19 مِن نَفْس الأصحاح، يُخاطب بولس الرّسول مجموعة في الكنيسة هُم بالفِعل أغنياء. ما الذي يجب أن يفعله شخصٌ غنيٌّ صار مسيحيّاً مؤمناً إذن؟. الإجابة في عدد 19 وهو إعادَةْ صِياغة لِما قاله المسيح في تعاليمه. قال المسيح: "لا تَكنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ... بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنوزاً في السَّمَاءِ (متّى 6: 19، 20). قال أيضاً إنّنا يجب أن نستخدم أموالنا في الأكياس التي لا تَفنى والكُنوز السّماويّة التي لا تَنْفَد (لوقا 12: 33). كما قال إننا يجب أنْ نستخدم المال لتأمين ترحيب جيّد بمسكننا الأبدي. ( لو 16: 9) . ويقول بولس في عدد 19 إنّ على الأغنياء أن يستخدموا أموالهم بطريقة تجعلهم: "مُدَّخِرِينَ لأَنْفُسِهِمْ أَسَاساً حَسَناً لِلْمُسْتَقبَلِ لِكَيْ يُمْسِكُوا بِالحَياةِ الأبَدِيَّةِ". لَيس لأنَّ الحياة الأبدية يُمكِن شراؤها، بَل لأنَّ استِخدامك للمال يُظهِر أين يَكمُن رجاؤكَ.

يقدِّم الرّسول بولس ثلاثة اتِّجاهات للأغنياء لاستخدام أموالهم ليُمسِكوا بالحياة الأبديّة. أوّلاً، (ع 17) لا تَدَع مالَك يجعلك تَستَكْبِر. لكُلّ واحدٍ مِنّا شُعورٌ في وقتٍ ما بالاعتداد بالذّات والتّفوُّق والرِّفعة، يا لَهُ مِن شُعورٍ مُخادِعٍ، خاصّة عندما يتسلّل إلينا بعد استِثمارٍ ذكيّ وشِراءِ شيءٍ له قيمة، أو حُصولنا على مبلغ كبير. إنّ عامل الْجَذب الرّئيسي للمال يتجلّى في الإحساس بالقُوّة والشُّعور بالزُّهوّ والتّكبُّر. وبولس يوصي بأنْ لا تدع هذا يحدث لك.

ثانياً، في عدد 17 يقول بولس للأغنياء: "لا يُلْقُوا رَجَاءَهُمْ على غَيْرِ يَقِينِيَّةِ الغِنَى بَلْ عَلَى اللهِ الحَيِّ الَّذي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ". وهذا ليس بِسَهْلٍ على الأغنياء. ولهذا قال المسيح إنّه مِن الصَّعب دخول الغَنيّ لملكوت السّموات (متّى 10: 23). مِن الصّعب أنْ تتحوَّلَ ببَصَرِك عن كُلّ الآمال التي يقدِّمها الغِنى، وتتجِّه إلى الرّبّ وتضع كُلّ رجاءك وآمالك عليه. مِن الصّعب أنْ لا تُحِبّ الهديّة وتنسى المُعطي. إلاّ أنّ هذا هو الرّجاء الأوحَد للأغنياء، ولَو لم يستطيعوا عمل ذلك، لضَلّوا. لابُدَّ لهُم أنْ يتَرَجَّوا الله أكثر مِن رجائهم في عطاياه. وأيّ مُتعَة يجدونها في أيّ شيء على الأرض، لابُدّ أنْ يستمتِعوا بها مِن أجلِه هو.

أخيراً، (ع 18) يجب على الأغنياء استخدام أموالهم في فعل الأشياء الصّالحة، ويجب أن يكونوا كُرَماء وأسخِياء. وبمُجرَّد أن يُصبِحوا أحراراً مِن مغناطيس التّكبُّر والفَخر، وبمُجرَّد أن يضعوا رجاءهم في الله لا في المال، شيءٌ واحدٌ يُمكن أنْ يحدث في هذه الحالة: أموالهم تنساب وتتدفَّق وتتضاعف في خدمة الرّبّ، سيُطعَمُ الْجَوعى وسيُشفَى التّعابى، سيَتعلَّم عدِيمي العِلْم وسيُبَشَّر للبَعيدين السّاكنين في أقاصي الأرض.

يبدو لي أنّ خلاصة القَول تتركّز في أنّ النّصوص الكتابيّة السّابقة، يريدنا بولس فيها أن نُمسِك بالحياة الأبديّة ولا نَفقِدها أبداً. وبولس جادٌّ وكُلّ ما يقوله دائماً أساسيٌّ ومَهِمٌّ، وهو يحيا بالقُرب من الأبديّة، ولهذا يرى الأشياء بصورة أوضح. هو يقف هناك كحارِسٍ لله، وبدَوره يعامِلنا كمسيحيّين أتقياء ساعِين للَّذةٍ مسيحيّة: أنت تريد حياةً بل وحياةً أبديّةً مُمتِعةً، أليس كذلك (ع 19)؟ ولا تريد عَطَب وهلاك وأوجاع كثيرة، أليس كذلك (ع 9، 10)؟ تريد كُلّ رِبح يمكن أن تأتي به التّقوى، أليس كذلك؟. لِذا، عليك أنْ تستعمل بحِكمة عُمْلَة الحياة المسيحيّة السّاعِية للفَرَح والسُّرور والشِّبَع: لا تَبغي الغِنى، وكُنْ قَنوعاً بضرورات الحياة البسيطة. ضَعْ كُلّ رجائك على الرّبّ، احْمِ نَفْسَك مِن التَّكبُّر، ودَع فَرَحك في الرّبّ يتدفّق ويَفيض في ثَروةِ سخاءٍ واحتِواءٍ لعالَمٍ ضائعٍ ومَعْوَزٍ.